فصل: تفسير الآية رقم (51):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير آيات الأحكام



.الأحكام:

أحلّ الله تعالى لنبيه توسعة عليه، وتيسيرا له في نشر الرسالة، صنوفا من النساء، صنفا يدفع له المهر، وصنفا يتمتع به بملك اليمين، وصنفا من أقاربه، وصنفا رابعا ينكحه دون مهر، بعد أن تهب المرأة نفسها للنبي صلّى الله عليه وسلّم ويتم القبول، وهذا خاصّ بالنبي صلّى الله عليه وسلّم يجوز له، ولا يجوز لأحد من المؤمنين.
ذلك هو محصول الآية الكريمة على ما رجّحه العلماء من جعل الخصوصية في نكاح الهبة، وإن اختلفوا في مرجح الخصوصية في هذا النكاح على ما يأتي بيانه.
وقد أراد الكرخي أن يأخذ من تسميته المهر أجرا في قوله تعالى: {آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} حجة في عقد النكاح بلفظ الإجارة، ولم يتابعه سائر الحنفية في هذا الذي ذهب إليه. ولعلّ مستند الكرخي في هذا أنّ الله قد سمّى المهر أجرا، والأجر يجب بعقد يتحقّق بلفظ الإجارة، فيصح النكاح بلفظ الإجارة.
وليس هذا يصح مستندا، فالحنفية وهم الذين يقولون: إنّ العبرة في العقود للمعاني، يقولون: إنّ معنى الإجارة يتنافى مع عقد النكاح، إذ النكاح مبني على الإطلاق، والتوقيت يبطله، وعقد الإجارة مبني على التوقيت، حتى لو أطلق المتعاقدان العقد عن التوقيت كان مؤقتا، ويتجدد العقد ساعة فساعة، فكيف يصحّ جعل ما هو موضوع للتوقيت دالا على ما يبطله التوقيت.
وشيء آخر: وهو أنّ الإجارة عقد على المنافع بعوض. وبعبارة أخرى هي تمليك المنافع بعوض.
ويقول الحنفية وقد فرّعوا الفروع على ما قالوا: إنّ النكاح ليس عقد تمليك، وإنما هو استباحة، وهما مختلفان في الآثار.
وفرق آخر: هو أنّ الحنفية يصرّحون بأنّ المهر في النكاح ليس عوضا، وإنما هو عطية أوجبها الله تعالى إظهارا لخطر المحل، ولذلك صحّ النكاح مع النص فيه على ترك المهر، ويجب مهر المثل بالدخول، ولو كان عوضا لما صح تركه، فضلا عن النص عن الإسقاط، ولو سلّم أن النكاح يقتضي التمليك فلا يصح أن يعقد بلفظ الإجارة، حتى لا يلتبس الأمر بعقد المتعة الباطل، وما ينشأ اللبس إلا من لفظ الإجارة الدالّ على التوقيت.
وما كانت تسمية المهر أجرا لتستلزم هذا الذي ذهب إليه الكرخي، وقد بينا لك فيما تقدم المسوّغ لهذا، وهو ما يبدو من شبه بين الأجر والمهر، والمسألة في هذا سهلة، فالحنفية كلهم على غير ما يرى الكرخي.
ومما جرى الخلاف فيه بين الفقهاء عقد النكاح بلفظ الهبة لغير النبي صلّى الله عليه وسلّم. فقال أبو حنيفة، وأبو يوسف، وزفر، ومحمد، والثوري، والحسن بن صالح: يجوز، ولها ما سمّى في العقد. ومهر المثل إن لم يسمّ شيء.
وروى ابن القاسم عن مالك أنّ الهبة لا تحل بعد النبي صلّى الله عليه وسلّم إن كانت هبة نكاح، وقال الشافعي رضي الله عنه: لا يصحّ النكاح بلفظ الهبة.
وخلاف الفقهاء تابع لنزاع العلماء في معنى قوله تعالى: {خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} فذهب جماعة إلى أن الخصوصية والخلوص الوارد في الآية هو خلوص عقد النكاح بلفظ الهبة للنبي صلّى الله عليه وسلّم ألا ترى كيف قال الله تعالى: {لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}، وكيف قال: {إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها} وقبل ذلك: {إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ} وفي جميع ذلك من الإشارة ما يدلّ على أن إحلال المرأة من طريق الهبة كان خاصا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم.
وذهب آخرون إلى الخلوص والخصوصية الواردة في الآية كان في نكاح الواهبة بغير مهر. أما عقد النكاح بلفظ الهبة فكان جائزا للنبي وأمته معه، لا خصوصية فيه، وهو مروي عن مجاهد، وسعيد بن المسيب، وعطاء، وزعم الذاهبون إليه أنّ الآية تدلّ عليه، وذلك أنّ الله تعالى يقول: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} جعل الله العقد خالصا للنبي، وأضاف لفظ الهبة إلى المرأة، وأضاف إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم إرادة الاستنكاح، فدلت المخالفة بين الجانبين على أنّ المراد مدلول اللفظ الذي فيه جانب المرأة، وهو ما يدل عليه لفظ الهبة من ترك العوض.
وأيضا فلو كانت الخصوصية راجعة للفظ الهبة لجاء في اللفظ الذي يكون في جانبه، أما خصوصية أن يكون عقده بلفظ الهبة من جانب المرأة دون أن يكون فيه إسقاط العوض فيكاد يكون غير مقبول.
ووجه آخر هو أن الله تعالى قال بعد ذلك: {لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ} وذلك يشير ظاهرا إلى أن الخصوصية دفعت حرجا. وقصر النكاح على لفظ النكاح أو التزويج لا حرج فيه، إنما الحرج يكون في إلزام المهر، لأن ذلك يلزمه مشقة السعي في التحصيل، وهو مشغول بشؤون الرسالة، ويرجّح هذا الذي نقوله قول الله تعالى في أول الآية: {آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} حيث يكون إحلال الهبة مقابلا له، فيكون المعنى أحللنا لك الممهورات وغير الممهورات.
ثم هم يسوقون في ذلك حديثا رواه عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه، عن محمد بن بشر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أنها كانت تعيّر النساء اللاتي وهبن أنفسهنّ للنبي صلّى الله عليه وسلّم، قالت: ألا تستحي أن تعرض نفسها بغير صداق؟ أنزل الله عزّ وجلّ: {تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ} قالت: إني أرى ربّك عزّ وجلّ يسارع لك في هواك.
ويقولون بعد ذلك أنه قد ورد أن النبي صلّى الله عليه وسلّم عقد على امرأة بلفظ التمليك لرجل على ما معه من القرآن، فقال: «ملكتكها بما معك من القرآن»، وذلك يدل على صحة عقد النكاح بلفظ يدل على التمليك، ولفظ الهبة يدل على التمليك، فصح عقد النكاح به.
ذلك مجمل ما يقال في الاستدلال للمجيزين على ما ذهبوا إليه، وما نراه يدل لهم.
وإنا لنسألهم: أين وجدتم في الآية أنّ النكاح كان دون مهر؟ أليس في لفظ الهبة؟ فكيف يكون ما يدل عليه اللفظ خاصا به صلّى الله عليه وسلّم، وليس شيء يدل عليه إلا اللفظ ومع ذلك فأنتم لا تقولون بجواز عقد النكاح بلفظ الهبة مع بقاء معناه، وهو ترك العوض. والذي في الآية ترك العوض مدلولا عليه بلفظ الهبة.
فمن أين لكم الخصوصية في المعنى دون اللفظ؟ ومن أين لكم أنه يجوز عقد النكاح لغير النبي صلّى الله عليه وسلّم بلفظ الهبة مع إيجاب المهر؟ فإن كنتم تريدون أنّ عقد النكاح بلفظ الهبة يصحّ من النبي صلّى الله عليه وسلّم ومن غيره، وتريدون أن تأخذوه من الآية فخذوا جواز ذلك للناس جميعا بكل ما دلّ عليه، وهو العقد بلفظ الهبة من غير مهر.
أما أن تقولوا: إنّ العقد بلفظ الهبة جائز للناس جميعا ويجب المهر، فهو الذي لا نجد لكم سندا فيه.
وكيف يكون السند، والله تعالى يقول: {خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} ولا يمكن رجوع الخصوصية للمعنى إلا بعد أن يكون مستفادا من اللفظ، مدلولا عليه به، ولو أسقط لفظ الهبة من العقد استبعد إسقاط المهر، فالحقّ أنّ الخصوصية راجعة إلى ما كان من عقد النكاح بلفظ الهبة، مع ما يحمل من المعنى، وهو تمليك البضع بغير عوض.
وما سقتم من حديث عائشة لا ينفعكم، فليس فيه إلا أنّ نكاح الواهبة كان بغير عوض، وعائشة إنما فهمت ذلك من لفظ الهبة.
ونحن نقول: إنّ الخصوصية كانت في عقد النكاح بلفظ الهبة ومعناه، أما عقده بلفظ الهبة وحده دون المعنى فلا نقول: إنّ الخصوصية راجعة إليه.
وأما ما قلتم من أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عقد النكاح بلفظ التمليك، فهو بعد تسليم حجية الحديث المروي فيه لا يدلّ على ما ذهبتم إليه.
وهناك رواية أخرى تدل على أن العقد كان بلفظ: «زوجتكها» ولا دلالة فيما رويتم، فعقد النكاح بلفظ التمليك لا يفيد أن كل ما يدل على التمليك ينعقد به النكاح، ألا ترون أن لفظ الإجارة يدل على التمليك، وأنتم لا ترون النكاح ينعقد به، لما فيه من معنى يتنافى مع المقصود من النكاح، وهو أن الإجارة مبينة على التوقيت.
وكذلك نحن نقول بعد أن نسلّم لكم أنّ صيغ العقود يصحّ القياس فيها: إنّ لفظ الهبة نصّ على ترك العوض، والنكاح لابدّ فيه من العوض، وإن لم يذكر في العقد، فلا يصح أن يدل عليه بلفظ صريح في ترك العوض.
هذا ما رأينا أن نذكره مما تكلم فيه المفسرون من الأحكام، وهناك أشياء أخرى عرض لها المفسرون: كالكلام على أعمام النبي، وعمّاته، وأخواله، وخالاته ومن وهبت نفسها من النساء، وما نرى أن نتابعهم فيه، لأنّ ذلك حتى بعد صحة ما يروى لا فائدة من ذكره هاهنا.

.تفسير الآية رقم (51):

قال الله تعالى: {تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً (51)}.
الإرجاء: التأخير والتنحية.
والإيواء: الضم والتقريب.
والابتغاء: الطلب.
والعزل: الإبعاد.
اختلف في سبب نزول هذه الآية، فروى أبو رزين العقيلي أنّ نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم لمّا أشفقن أن يطلقهنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قلن: يا رسول الله! اجعل لنا من نفسك ومالك ما شئت فكانت منهن: سودة بنت زمعة، وجويرية، وصفية، وميمونة، وأم حبيبة غير مقسوم لهنّ.
وكان ممن آوى: عائشة، وحفصة، وزينب، وأم سلمة: يضمهن ويقسم لهن.
وقيل كان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا خطب امرأة لم يكن الرجل أن يخطبها حتى يتزوجها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أو يتركها.
ويكون المعنى على ما روى أبو رزين: اعزل من شئت من القسم، وضمّ إليك من تشاء.
ويرى ابن العربي أنّ القولين غير صحيحين، أما ما روي عن أبي رزين فلم يرد من طريق صحيح.
وأما الآخر، فلأنّ امتناع الخطبة بعد خطبة الرسول صلّى الله عليه وسلّم لا ذكر له، ولا إشعار به، وهو مع كونه غير خاص بالنبي صلّى الله عليه وسلّم لا يكاد يتسق مع باقي الآية.
وقد اختلف العلماء في المراد من الإرجاء والإيواء:
فقد روي عن ابن عباس أنّ معنى الآية: تطلّق من تشاء، وتمسك من تشاء.
وروي عن قتادة: أنّ المعنى: تترك من تشاء، وتنكح من تشاء، وقد أسلفنا لك. عن أبي رزين ما يفيد أن المعنى: تترك من تشاء من غير قسم، وتقسم لمن تشاء.
ويرى ابن العربي أنّ الصحيح في سبب نزول الآية وفي معناها هو ما روي من طريق صحيحة عن عائشة أنها قالت: كنت أغار على اللائي وهبن أنفسهنّ لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأقول: أتهب المرأة نفسها؟ فلما أنزل الله: {تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ} قلت: ما أرى ربك إلا يسارع في هواك.
وثبت في الصحيح أيضا عنها أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يستأذن في يوم المرأة منّا بعد أن نزلت هذه الآية: {تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ} فقيل لها: فما كنت تقولين؟ قالت: كنت أقول: إن كان الأمر إليّ فإني لا أريد يا رسول الله أن أوثر عليك أحدا أبدا.
ويرى ابن العربي أنّ المعنى بعد ذلك هو: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد أذن له في غير إلزام أن يكون مردّ الأمر في القسم إليه، إن شاء قسم، وإن شاء لم يقسم، لكنّه كان يقسم بينهن من غير أن يكون القسم فرضا عليه.
وذلك خاصّ به دون المؤمنين. وقد ظلّ شأن النبي مع نسائه وشأن نسائه معه على هذا، حتى أدرك الكبر سودة بنت زمعة، فوهبت قسمها لعائشة، وقالت: لا تطلقني حتى أحشر في زمرة نسائك.
ولنرجع بعد ذلك إلى تفسير الآية بتمامها، حتّى يتبين من التفسير أيّ المعاني أجدر بأن يكون مقصودا من الآية.
{تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ} قد عرفت مما سقناه لك آنفا أنّ الإرجاء التأخير، وأن الإيواء الضم، وعرفت آراء العلماء في المراد بذلك.
ونزيد هنا أنهم اختلفوا أيضا في مرجع الضمير في (منهن)، فرأى بعضهم أنه يرجع إلى نساء الأمة جميعا، وأنّ المعنى أن لك أن تترك نكاح من تشاء من نساء الأمة، وأن تنكح من تشاء.
وهذا القول بعينه قدمناه لك في جملة الأقوال.
ونقول: إنه لم يفد فائدة جديدة، فالمقصود منه قد استفيد من آية: {إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ} إلى قول الله تعالى: {خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} على ما تقدم بيانه، وهو بعد ذلك لا يتسق مع قول الله تعالى: {وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ}.
ويرى البعض أنّ الضمير للواهبات، ويكون المعنى إنّ لك أن تقبل هبة من تشاء، وتترك هبة من تشاء، ويروون في ذلك من الروايات ما يستندون إليه، إذ يفيد أنّ بعض الواهبات قبلهنّ الرسول صلّى الله عليه وسلّم ودخل بهن، وأرجأ البعض الآخر، ولم يدخل بهن، ويقولون: إنّ منهن أمّ شريك.
وأنت تعلم مما سبق أن العلماء اختلفوا في وقوع الهبة، وعلمت أنّ الصحيح أنّها وقعت، وعلمت كذلك أنهم اختلفوا في قبوله صلّى الله عليه وسلّم الهبة منهن، وأن الصحيح أنه لم يكن تحته امرأة وهبت نفسها، ومتى علمت هذا كان لك أن تحكم بضعف هذا القول، خصوصا إذا نظرت إلى أن ضمير (منهن) للجمع، ولم يرد للواهبات ذكر بالجمع حتى يكون مرجعا، فخير أن يكون مرجع الضمير لنسائه اللاتي هنّ تحته: وأنّ المراد ترك أمر القسم إليه، إن شاء قسم، وإن شاء لم يقسم توسعة عليه، حتى تطمئن نفوس زوجاته، على ما يأتي بيانه.
{وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ} أي أنّه لا حرج ولا إثم إذا عنّ لك أن تطلب إحدى المرجئات والمعزولات، فتضمها، وتؤويها إليك بعد عزلها وإرجائها، ويجوز حمل الإرجاء والعزل هنا على الطلاق، ويكون المعنى: ومن طلبت رجوعها ممن تكون قد عزلت فلا جناح عليك في طلب رجوعها إلى العصمة.
ويجوز أن يراد منه التأخير في القسم، أو ترك القسم، ويكون المعنى: ومن طلبت إيواءها وإدخالها في القسم ممن أخرت القسم لها أو تركته، فلا جناح عليك.
وأما أن يراد بالابتغاء طلب النكاح، وبالعزل والإرجاء تركه، على أن يكون المعنى: ومن طلبت نكاحها من اللاتي تركت فبعيد، لأنّ العزل مشعر بأن تكون المعزولة كانت في زمرة ثم عزلت، وفصلت عنها. والتي رفض نكاحها لا يقال: إنها كانت في زمرة فصلت وعزلت منها. {ومَنْ} على كلّ هذا شرطية جوابها {فلا جناح عليك}.
وروي عن الحسن أنّ معنى الآية: إنّا جعلنا لك أمر الإرجاء والإيواء، وجعلنا لك أيضا أن تطلب نكاح من تشاء عوضا ممن عزلتها بالطلاق أو بالموت. وهو في هذا يحمل الإرجاء على الطلاق، ويكون المعنى: أن الله أحلّ لك صنوفا من الأزواج، تطلق من تشاء منهن، وتعتاض عمن عزلت بالطلاق أو بالموت منهن، وعلى هذا (فمن) في قوله: {مِمَّنْ عَزَلْتَ} للبدل، مثلها في قوله تعالى: {أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ} أي بدل الآخرة.
{ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً} اسم الإشارة يرجع إلى ما تضمّنه الكلام السابق من تفويض أمر الإرجاء والإيواء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، أي إنّ تفويضنا الأمر- في إبقاء من تشاء، وترك من تشاء، أو في القسم وتركه إليك- أقرب أن تكون أعينهن قريرة. وذلك كناية عن سرورهن بذلك، فلا تحزن من كان لهن الإرجاء، ويرضين بما تصنع معهن. لأنّه متى علمن أنّ الأمر صار إليك، صار في مرجو المعزولة أن تكون يوما صاحبة فراش، فلا تيأس من قربك، ولا تقنط من رحمة الله.
وأما قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ} فهو خطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم ولأزواجه رضي الله عنهن، وجمع بجمع الذكور للتغليب، وتعقيب الكلام السابق بهذا يراد منه الحثّ على إصلاح ما عساه يكون في القلوب جميعا بالقدر المستطاع، فيخفف النبي صلّى الله عليه وسلّم ما عساه يكون منه من أثر للميل في معاملة نسائه، ويذهب من النساء ما عساه يكون من أثر للغيرة التي تغلب النساء عادة {وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً} يعلم خفيّات الصدور، وما يكون لها من آثار ظاهرة وباطنة. ولا يعجل العقاب قبل الإرشاد والنصح.